250 عامًا على ميلاد لودفيغ فان بيتهوفن

2021-07-29

كانت أوركسترا إيطالية تعزف في بيت لحم - التي تحتفل هذا العام بكونها عاصمة الثقافة العربية  - السيمفونية التاسعة العظيمة لبيتهوفن. هذا العمل الموسيقي الذي يعترف به العالم الموسيقي أنه معجزة لن تتكرر تتكون من أربعة أجزاء كبرى كل جزء يسمى حركة . والحركة الختامية الرابعة لها اعتمد الموسيقار الخالد لودفيغ فان بيتهوفن أبياتا من الشعر للشاعر الكبير فردريك شيلر . وكنت جالسا أستمع لها . وكان المغني المنفرد والجوقة تغني "أيها الإخوة، ابحثوا فوق السماء المرصعة بالنجوم فهناك أب محب  لكم ." كان الجميع في الكنيسة في حالة صمت تام .  ومن المؤكد أن معظم الحاضرين لم يعرفوا التركيب الموسيقي ولا النص الذي يَغنى ولكن كانت الموسيقى أبلغ المتحدثين على الإطلاق . أنهى قائد الأوركسترا الضربات الست عشرة قبل أن ينهي السيمفونية فجأة حين لا يتوقع المستمع ذلك.  اختار بيتهوفن نهاية غير تقليدية تماما لها.  وبعد أن تأخذ الموسيقى بسلم موسيقى يتصاعد وكأنما يأخذه إلى السماء وتصمت الأوركسترا فجأة وكأنما بيتهوفن يترك للمستمع أن يقرر ماذا يريد أن يفعل : يهوي من السماء إلى الأرض أو يبقى محلقا في عالم الله والكون .

  هكذا كان بيتهوفن 

أما السيمفونية الخامسة  فهي شيء آخر...

الحكايات التي توضح عمق تأثير هذه السمفونية على الموسيقيين حين سمعوها كثيرة . فمثلا حين سمعتها مغنية الأوبرا سيدة عصرها "لاماليبران" أغمى عليها وأصابتها نوبة تشنج عصبي وهى تسمع السمفونية لأول مرة بقاعة كونسرفاتوار باريس . سمعها أيضا ضابط من ضباط الجيش الإمبراطوري الفرنسي (جيش نابليون) فوقف صامتاً من فرط حماسه بالحركة الأخيرة وما لبث أن صرخ لاهثا منفعلا : "الإمبراطور، هذا والله هو الإمبراطور ."  ويروى أيضا أن الموسيقار الفرنسي العجوز، الكلي الاحترام، ليزوبر، وكان أستاذ الشاب هكتور برليوز (موسيقار كبير فيما بعد)، حيث كتبها في مذكراته، ذهب لسماع السمفونية الخامسة لأول مرة، وجلس في بنوار (بلكون) من بناوير قاعة الكونسرفاتوار وفي ختام الحفل، أسرع التلميذ برليوز إلى أستاذه ليسأله عن رأيه، فإذا بالرجل يقول متأففا : "أف لهذه الموسيقى، دعنا نخرج من هنا . أريد أن ألتقط أنفاسي . هذا شيء لا يصدقه العقل،  موسيقى عظيمة....ولكنها لخبطت كياني إلى درجة أنني عندما أردت أن ألبس قبعتي أخذت أبحث عن رأسي فلم أجده ! " . وعاد إليه برليوز في صباح اليوم التالي ليسمع منه على هدوء قوله : "ليكن ما يكون،  يجب تجنب تأليف مثل هذه الموسيقى" . ويرد عليه الموسيقار الفرنسي الشهير برليوز بالجملة التي حفظها له التاريخ : "اطمئن يا سيدي الأستاذ، لن يؤلف أحد كثيراً  مثل هذه الموسيقى" .

في كانون الأول عام 1808 أذهل لودفيغ فان بيتهوفن فيينا بحفل موسيقي مدته أربع ساعات . تضمن الحفل عزف  السمفونيتين الخامسة والسادسة كما تضمن عزف كونشيرتو البيانو الرابع كلها للمرة الأولى . لقد كان ذلك من أهم حفلات ذلك العام وبقي يتذكره الحاضرون لفترة طويلة .  ولما هاجمت قوات نابليون بونابرت بعدها فيينا واحتلتها للمرة الثانية كان بيتهوفن يعيش على خط النار في بيت شقيقه، بينما كان يحاول حماية سمعه المتضرر بالفعل من الضجيج وذلك بالعيش مؤقتا في القبو . والأسوأ من ذلك، انقطع عنه الدعم المالي من البلاط . وقد كتب في ذهوله وقلقه عن "الحياة المدمرة وغير المنظمة" من حوله ، "لا شيء سوى الطبول والمدافع والبؤس البشري" .

هكذا غادر بيتهوفن 

 أما لحظات بيتهوفين الأخيرة فكانت مؤلمة . كما وذكر صديق شوبرت هاتينبرينير، كانت درامية على درجة كبيرة .  في الساعات الأخيرة نطق آخر كلماته وهي الكلمات المشهورة عنه باللاتينية : "صفقوا أيها الرفاق, فقد انتهت المهزلة""(Comedia finita est).  وفي حوالي الساعة السادسة إلّا ربع مساءاً في السادس والعشرين من آذار/مارس، وفي أثناء هبوب عاصفة، امتلأت غرفة بيتهوفين فجأة بالنور وارتجت من البرق : "فتح بيتهوفين عينيه ورفع قبضنه اليمنى لبعض اللحظات، وظهرت على وجهه لمحة جدية مهددة . عندما وقع رأسه للخلف، أغلق عينيه نصف إغلاقة ... لا كلمة ولا نبضة قلبٍ أخرى  ."

منذ الوقت الذي غادر فيه بيتهوفن مسقط رأسه بون متوجهاً إلى فيينا في عام 1792 وهو يتعرض إلى صعوبات ونكسات في حياته الموسيقية الشابة .  وقع فقدان السمع في عام 1798، ولم يكن انزلاقاً هادئاً إلى الصمت، بل كان "الصرير والطنين" في الأذنين حتى أنه في عام 1802 فكر في الانتحار، فكتب أن "فني فقط هو الذي منعني" . 

بدأت الاحتفالات قبل اندلاع جائحة فيروس الكورونا .  كان مقر الإحتفالات مدينة بون حيث بدأت الحكاية قبل 250 عاما : حكاية الطفل المعجزة الذي جعل الموسيقى عالما آخر .. عالم فكر وليس فقط عالم متعة .

أطلق اسم bthvn250 على المشروع الذي مقره بون .  واحتوى البرنامج على جدولة مئات الأحداث في ألمانيا وفيينا، حيث عاش بيتهوفن ودوّن الكثير .  وفي معيشته في فيينا لمدة 35 عاما لم يلق الكثير من المودة والإحرام وعانى من الفقر والحرمان بالإضافة إلى حياة اجتماعية كئيبة .

وقامت فيينا بإلغاء العديد من الحفلات الضخمة بهذه المناسبة ... فالمرض الذي أدى إلى وفاته أدى اليوم إلى إلغاء العديد من الحفلات الموسيقية . تنازلوا عن الكثير من المعارض والحفلات الموسيقي لتكريمه .  في البرازيل  أطلقت، المايسترو الأمريكية مارين ألسوب مشروعها "Global Ode to Joy"، الذي خطط لعروض السيمفونية التاسعة التي اقتحمت السماء في ست قارات .  استعدت دور الأوبرا لرفع الستار عن "فيديليو،"  أوبرا بيتهوفن الوحيدة وترنيمة دائمة الخضرة للحرية . "يا لها من نعمة، أن تتنفس بحرية في الهواء الطلق،" غنِّت جوقة من السجناء  في مشهد لإذابة أقسى قلوب ثم يعودون إلى زنازينهم كما تتحدث الأوبرا . هذا الربيع – ربيع انتشار وباء الكورونا، عاد الناس كلهم إلى بيوتهم. أجبرت عمليات الإغلاق جميع المسؤولين عن حفلات بيتهوفن الاحتفالية في الذكرى السنوية ومما اضطرهم لتمزيق خططهم . قال "مالتي بويكر Malte Boecker "  مدير مشروع " bthvn 250": "كان على بيتهوفن أن يعيد اكتشاف نفسه مراراً وتكراراً." تم تأجيل الأحداث .  انتقلت العروض على الإنترنت . ومع ذلك، فقد نما عدد الجمهور وازداد . يقول بويكر : "لقد أصبحت برامج المشروع مثل كرة الثلج". كما أصبح "مشروع بيتهوفن الريفي،" المستوحى من السيمفونية السادسة الريفية، شبكة افتراضية من الفنانين، وصلت بالفعل إلى جمهور عالمي يبلغ 30 مليوناً .

من الملاحظ أن انعدام الأمن المزمن الذي يواجهه الموسيقيين اليوم يشبه كثيراً الوضع في زمن بيتهوفن :  اشتعلت الحرب مع فرنسا عدة مرات من 1792 إلى 1815، كما ازداد  الوضع الاقتصادي سوءاً حيث تعرض الناشرون ومنظمو الحفلات وغيرهم للإفلاس . ولا تقل الأوضاع سوءاً لمنظمي الحفلات الموسيقية في ذكرى مرور 250 عاما .

كان بيتهوفن في حياته يناضل كثيراً ويتنقل من مكاتب البلاط الإمبراطوري إلى منظمي الحفلات، ومن مطابع الناشرين إلى المتعهدين، حيث تتأرجح حياته اليومية بين الفقر وبين القليل من الرخاء أحياناص .  وبعد عام 1812 أصبحت الحياة أكثر شحة حيث عرف عنه قوله : "لم يبق لدي شيء" .

تعتبر أعماله العظيمة، مثل السيمفونية التاسعة والقداس الاحتفالي الكبير (Missa Solemnis)  آثارا خالدة للعبقرية، وكانت ربما من الحالات النادرة التي وجد بيتهوفن التقدير والتعويض المالي المقبول حين تنافس على نشرها أكبر ناشري للموسيقى في زمنه: الناشرين Schott and Sons of Mainz مقابل 1600 فلورين .

كان بيتهوفن جمهوريًا مثاليًا، وليس ديمقراطيًا حديثًا. قال ذات مرة إنه "لم يؤمن أبدًا" في القول المأثور "Vox populi…vox Dei" ("صوت الناس هو صوت الله") .  لكن بالنسبة لآذان الأجيال القادمة  فإن موسيقى بيتهوفن تعني التحرر البطولي والتضامن الإنساني .  الضربات المشؤومة التي أطلقت السمفونية الخامسة أصبحت رمز مورس "V" للنصر خلال الحرب العالمية الثانية . 

الآن مع حظر الجوقات الحاشدة لأسباب صحية، لا تزال هذه العروض الفنية غير قابلة للأداء في أوروبا .  وهكذا في غياب تام لشخصية بيتهوفن من برامج ومعارض وحفلات موسيقية خلال عام جائحة الفيروس ظهر الكثير من الترتيبات الصغيرة والحفلات الصغيرة لموسيقاه، تبث من خلال الإنترنت ويحضرها الكثيرون في كل العالم .  

وتبقى موسيقاه تشهد على ذلك، بالإضافة إلى سمفونياته الخالدة، كونشيرتو الكمان العاطفي جدا، الرباعيات الأخيرة، سوناتا الربيع وسوناتات البيانو الجميلة مثل "الحزينة – الباثيتيك"، "ضوء القمر" و"الوداع"، ومن القطع الصغيرة الجميلة مثل "مينويت" في مقام صول و"فير إليز"  إلى الأوركسترا والجوقة الكبرى تنشد لله: "ارحمنا، امنحنا السلام" في قسم Agnus Dei  من القداس الاحتفالي الكبير .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved